المديح النبوي الشعبي... تراث شفوي تناقلته أجيال متعددة

الإثنين, 11/11/2019 - 08:43

يعتبر فن المديح  النبوي الشعبي في موريتانيا  صنف من التراث غير المادي الذي يعني الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات- وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية- التي تعتبرها المجموعات، وأحيانا الأفراد، جزءا من تراثهم الثقافي.
ويمكن  إضافة إلى المديح النبوي أصناف أخرى من التراث غير المادي بالنسبة لبلادنا مثل: الموسيقى التقليدية، الطب التقليدي، الفولكلور الشعبي، الصناعة التقليدية، الألعاب الشعبية، مواسم ثقافية…إلخ.
ويعرف المديح النبوي عموما بأنه هو ذلك الشعر أو الكلام المغفى الذي ينصب على مدح النبي (صلى الله عليه وسلم)، بتعداد صفاته الخُلقية والخَلقية، وإظهار الشوق لرؤيته، وزيارة قبره والأماكن المقدسة، التي ترتبط بحياة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، مع ذكر معجزاته المادية والمعنوية، ونظم سيرته شعرا، والإشادة بغزواته وصفاته المثلى، والصلاة عليه تقديرا وتعظيما.
كما أن المديح النبوي يعرف أيضا بأنه فن من فنون الشعر التي أذاعها التصوف، فهو لون من التعبير عن العواطف الدينية، وباب من الأدب الرفيع، لأنه لا يصدر إلا عن قلوب مفعمة بالصدق والإخلاص، ولا يشبه ذلك المدح الذي كان يسمى بالمدح التكسبي  الموجه إلى السلاطين والأمراء والوزراء، وإنما هذا المديح خاص بأفضل الخلق محمد (صلى الله عليه وسلم)، ويتسم بالصدق والمحبة والوفاء والإخلاص والتضحية، والانغماس في التجربة العرفانية والعشق الروحاني ، وقد ظهر المديح النبوي في المشرق العربي مبكرا مع مولد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وأذيع بعد ذلك مع انطلاق الدعوة الإسلامية وانتشار الفتوحات الإسلامية، إلى أن ارتبط بالشعر الصوفي مع ابن الفارض والشريف الرضى،بيد أن هذا المديح النبوي لم ينتعش ويزدهر ويترك بصماته إلا مع الشعراء المتأخرين وخاصة مع الشاعر البوصيري في القرن السابع الهجري.
و يستوحي المديح النبوي مادته الإبداعية ورؤيته الإسلامية، من القرآن الكريم أولا فالسنة النبوية الشريفة ثانيا، كما أن هناك مصدرا مهما في نسج قصائد المديح النبوي، يتمثل في كتب التفسير التي فصلت حياة الرسول (صلى الله عليه وسلم) تفصيلا كبيرا، كما يظهر ذلك جليا في تفسير ابن كثير على سبيل المثال، بالإضافة إلى  كتب السيرة التي تتمثل في مجموعة من الوثائق والمصنفات، التي كتبت حول سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم)، سواء أكانت قديمة أم حديثة.
ومن ما يميز المديح النبوي أنه شعر ديني ينطلق من رؤية إسلامية ويهدف إلى تغيير العالم المعاش، وتجاوز الوعي السائد نحو وعي ممكن، يقوم على المرجعية السلفية بالمفهوم الإيجابي، كما أن هذا الشعر تطبعه الروحانية الصوفية من خلال التركيز على الحقيقة المحمدية التي تتجلى في السيادة والأفضلية والنورانية، وهذا يعني أن المديح النبوي يشيد بالرسول (صلى الله عليه وسلم) باعتباره سيد الكون والمخلوقات، وأنه أفضل البشر خلقة وخلقا، وهو كذلك كائن نوراني في عصمته ودماثة أخلاقه، لذلك يستحق الممدوح كل تعظيم وتشريف، وهو أحق بالتمثيل واحتذاء منهجية في الحياة، كما أن عشق الرسول (صلى الله عليه وسلم) في القصيدة النبوية يتخذ أبعادا روحانية وجدانية وصوفية.
هذا و قد عرف المجتمع الموريتاني المديح النبوي عن طريق الطرق الصوفية المنتشرة في المغرب، الذي انتقل إليه جنس المديح عن طريق شعراء الأندلس، وقد تناول الشعراء الشناقطة السيرة النبوية بقصائد فصحى ولهجية، كما امتازت بعض المحاظر في المجتمع الموريتاني بالتركيز على تدريس السيرة النبوية إلى درجة التخصص، وقد توفرت فيها مراجع متخصصة في مجال السيرة النبوية مثل قرة الأبصار لعبد العزيز اللمطي؛ عمود النسب؛ والغزوات لأحمد البدوي المجلسي.
بيد أن البيئة الموريتانية قد عرفت  فنا أو صنفا آخر من المديح يعد إنتاجا خاصا لهذا المجتمع، هو المدح النبوي الشعبي، وذلك لكونه يختص بالخصائص التالية:
1- المدح النبوي الشعبي هو مزيج من الثقافة الزنجية الإفريقية والثقافة العربية الإسلامية، فبالنسبة للثقافة العربية الإسلامية تتجلى في الطابع الديني، من خلال محتوى الأغاني المخصص لمدح الرسول عليه الصلاة والسلام، و يتم التغني به ليلة الجمعة، وفي المولد النبوي الشريف، وطيلة شهر رمضان الكريم،أما بالنسبة للثقافة الزنجية الإفريقية فإنها تأخذ مظاهر متعددة في الإيقاعات المعبرة عن الحالة النفسية للمؤدون، والمتمثلة في الرغبة في الخروج عن نمط الحياة الصعبة.
2- يتم أدائه بلغة شعبية دارجة (الحسانية)، وفق طقوس معينة في الجلوس وطريقة الأداء، حيث يجلس المؤدون الذين يقودهم شخص واحد، يرددون من بعده كلاما قد يتفق مع ما يقوله وقد يختلف، وفي أوقات زمنية معروفة، ويبتدئ عادة بالقصائد المديحية الغزلية الصوفية التي تعبر عن التشوق إلى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وزيارة الأماكن المقدسة،و تلك التي تمجد مولده وحياته ومعجزاته وبداية دعوته، ثم غزواته وانتصاراته على أعدائه ليختم بنظم لسيرته والصلاة عليه.
3- المدح النبوي الشعبي يشكل حفظه وأدائه نوعا من التخصص  في فترة من تاريخه في المنطقة.
4- إن المدح النبوي الشعبي لا يؤدى في الغالب من قبل ممتهني الموسيقى التقليدية في المجتمع،  ورغم ذلك يأتي شعر المديح النبوي الشعبي من حيث الوزن في بحر "حثو اجراد" الذي هو بت من ابتوتة الشعر الحساني، مما يشي بأصالة هذا الشعر وتماهيه مع المدح، حتى أن الفن الشعبي (الموسيقى الشعبية) أحدث ضربا غنائيا حمل اسم “ابن وهيب نسبة إلى الشاعر أبي بكر بن محمد بن مهيب صاحب الموشحات المديحية والتخميسات على الفزازي، كما أن هناك ضروب غنائية أخرى تصاحب أداء المدح النبوي الشعبي.
5- يعتبر المدح النبوي الشعبي ضارب في القدم في المنطقة، فقد تحدث بعض الباحثين أن لازمة "أسكي" تعود إلى اللقب الذي كان يطلق على ملوك دولة الأساكية التي ظهرت في القرن التاسع الهجري، في منطقة "كَوْكَوْ" الواقعة في الشمال المالي وتضم مدن: تنمبوكتو وأران وبوجبيها،وتعود أصول "الأساكية" إلى قبائل صنهاجة الذين كانوا يقطنون المنطقة الممتدة ما بين السوس الأقصى شمالا ونهر السنغال جنوبا، هذا إضافة إلى أنه موجود حتى اللحظة، ويؤدى بلغات شعوب عمرت المنطقة في حقب غابرة من التاريخ مثل شعوب "آزير" التي هي خليط بين الشعوب الزنجية السونكية والشعوب الصنهاجية، وقد قطنت المناطق الشرقية الموريتانية، وتوجد بعض الأمداح النبوية تؤدى بلغتها في المولد النبوي من كل عام في مدن ولاتة وتيشيت والنعمة، وهو ما قد يعني أن المدح النبوي الشعبي كان موجودا في المنطقة قبل أن تعرف اللسان العربي، وأنه تعرض لعملية تعريب بعد سيطرة الثقافة العربية على إثر انسياح القبائل العربية إلى هذه الربوع،ويستخدم في أداء المدح النبوي الشريف آلات موسيقية مختلفة: إيقاعية ونفخية ووترية.
1- الآلات الإيقاعية:
تتمثل الآلات الإيقاعية في "الطبل"وهي آلة موسيقية إيقاعية تصنع من اسطوانة جوفاء أو قدح من الخشب تشد على أطرافه قطعة من جلود البقر أو الإبل، وهو ذو قالب مستدير يحدث صوتا خفيا وقويا بحسب درجة حرارة الحفل ومهارة لاعبه أو لاعبته، ويضرب باليدين كما يمكن أن تستخدم قطعة من الخشب في ضربه، والغاية من ذلك إتمام الصوت الإيقاعي وخلق جو صاخب.
وفي ما يتعلق بالإيقاعات التي يؤدى فيها المدح النبوي الشعبي، فهي في الغالب “شرعة” مع إمكانية أن يؤدى في إيقاعات أسرع مثل: "صولة" و"أسربات" و"لبليدة".
2- الآلات النفخية:
الآلات النفخية تتمثل في "الزوزاية" و"النيفارة، وتشبه ما يعرف في البلدان العربية "بالناي"، وهي عبارة عن أمبوبة تجنبها ثقوب تصنع من جذور القتاد.
والاختلاف بين الزوزاية والنيفارة يكمن في كون الأولى مفتوحة الأطراف وتناسب الملاحم والأساطير، في حين تكون الثانية مسدودة الأطراف وبها ثقوب على السطح.
3- الآلات الوترية:
بخصوص الآلات الوترية المصاحبة لأداء المدح النبوي الشعبي فهي نوعان:
أ- "أرباب" وهو نوع من الكمان ذو وتر واحد يستخدم باحتكاك وتر على شكل قوس الخبرة، عود صغير بوتر واحد.
ب- "أم أزغيبة" – الزكعاري أوالكَبرة بحسب بعض المناطق- وهي بوتر واحد يعزف عليه بواسطة ظفر صغير، وهذه الآلات كلها غير احترافية بمعنى أن استخدامها نظرا لبساطة تصميمها يقتصر على غير الفنانين.
هذا و قد مثل المديح النبوي الشعبي في موريتانيا، تراثا إنسانيا شفويا، تناقلته أجيال متعددة لفترة زمنية ضاربة في القدم، وكون المدح النبوي الشعبي  بالدرجة الأولى تراتيل دينية و انتشار في حيز جغرافي واسع يمتد من فصالة في أقصى الشرق الموريتاني إلى بير ام اكرين في  الشمال.
عبد الرزاق سيدي محمد

بقية الصور: